لماذا يشكل توسع الناتو في أوراسيا مصدر قلق لموسكو وتحدياً لأمن القارة
![]() |
| توسع الناتو في أوراسيا |
في خطاب حاد اللهجة ألقاه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال مؤتمر أمني في مينسك عاصمة بيلاروس، أعاد الوزير التأكيد على أن موسكو تنظر بقلق بالغ إلى المسار الذي يتخذه حلف الناتو في السنوات الأخيرة. فبدلاً من أن يظل الحلف متمسكاً بطبيعته المعلنة كتحالف دفاعي صرف، كما يقول لافروف، بات يسعى إلى توسيع نطاق مسؤوليته بصورة مصطنعة تتجاوز الفضاء الأوروبي الأطلسي لتطال مناطق أوسع داخل قارة أوراسيا، من الشرق الأوسط إلى جنوب القوقاز وآسيا الوسطى وجنوب آسيا، وصولاً إلى المسرح الآسيوي الأوسع. في هذا السياق، سخر لافروف من الإصرار المتكرر على أن الحلف دفاعي بحت، معتبراً أن الخطاب لا ينسجم مع الواقع العملي لسياساته وتموضعاته على الأرض، خاصة عندما تُستحضر فكرة عدم قابلية الأمن الأوروبي الأطلسي للتجزئة وتُدمج تعسفاً مع سردية منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وبحسب عرضه، فإن ما يجري عملياً هو محاولة لاحتواء الصين، وعزل روسيا، ومواجهة جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية، ما يجعل التوسع في نظر موسكو مشروعا لتغيير التوازنات يتجاوز اعتبارات الاستقرار. وينتقل لافروف من هذا التشخيص إلى طرح سؤال حاد ومباشر حول مستقبل القارة برمتها حين يتساءل عما إذا كان من المرغوب تحويل المساحة الشاسعة والجميلة من العالم إلى ما يشبه الإقطاعية السياسية لحلف عسكري واحد. وفي موازاة ذلك، يجدد التأكيد أن روسيا لا تضمر نية لمهاجمة أي دولة عضو في الحلف، وأنها مستعدة لوضع هذه التعهدات في إطار قانوني ملزم ضمن تفاهمات وضمانات أمنية مستقبلية، بما يعكس تفضيلها لمسارات التهدئة والتعايش المتوازن على منطق الحصار والاصطفافات الصدامية.
ويمتد التحذير الروسي ليشمل الجغرافيا القطبية الشمالية التي تُعد في حسابات موسكو منطقة يتعين أن تبقى فضاءً للسلام والتعاون والتنمية المشتركة، لا ساحةً لتكثيف الأنشطة العسكرية أو لتجريب ترتيبات أمنية جديدة. فبالنسبة إلى الرؤية التي قدمها سيرغي لافروف، فإن كل مرة يتسع فيها نطاق عمل الناتو خارج إطار تفويضه التقليدي تتفاقم معها كلفة المخاطر على الأمن الإقليمي، وتزداد عوامل الاشتعال نتيجة تراكم نقاط الاحتكاك في سلاسل الممرات البحرية، ومواقع الطاقة، ومحاور النقل الاستراتيجية، وبنى الاتصالات العابرة للحدود داخل أوراسيا. ويشير الخطاب إلى أن التمدد نحو آسيا الوسطى وجنوب القوقاز والشرق الأوسط لا يمر عادة من دون آثار جانبية سلبية، إذ غالباً ما يُفضي إلى تجاذبات داخلية وإقليمية تصعب إدارتها، ويضعف فرص البناء على المصالح المشتركة التي يفترض أن تحكم علاقات دول القارة الفائقة الاتساع. ومن هذا المنطلق، يطرح لافروف تصوراً مغايراً يقوم على مفهوم الأمن المتكافئ وغير القابل للتجزئة، بحيث لا تبنى ضمانات طرف ما على حساب تهديد مباشر لطرف آخر، وهو منطق يرى أنه غاب عن سياسات التوسع المتواصل. كما يعرض الوزير الروسي تعهداً سياسياً مفاده أن موسكو، رغم كل الاتهامات الغربية المكرورة، لا تسعى إلى مغامرة عسكرية ضد أي عضو في الحلف، وأن الطريق الأجدى يمر عبر هندسة ترتيبات قانونية واضحة تتضمن التزامات متبادلة، ومجالات تماس مضبوطة، وقنوات اتصال مفتوحة تمنع سوء التقدير وتكبح التصعيد، خصوصاً في البيئات الحساسة كالمجال القطبي والممرات البحرية الحيوية وفضاءات أمن الطاقة.
وعند تفكيك المسألة الأوروبية الراهنة، يخلص سيرغي لافروف إلى أن العواصم الغربية ماضية في تحضيرات علنية لما يسميه حرباً أوروبية كبرى جديدة، وأن الخطابات القيادية في الاتحاد الأوروبي تميل إلى تبني ضمانات أمنية تم تصميمها ضد روسيا لا بمشاركتها، بما يغلق عملياً أبواب الحوار البنّاء مع غالبية النخب الأوروبية المؤثرة. ووفق هذا المنظور، فإن النهج السائد لدى دوائر القرار في الناتو والاتحاد الأوروبي يذهب إلى عزل كل طرف يصر على اتباع سياسة مستقلة تمتح من المصالح الوطنية ومنطق التعقل، ما يُضعف فرص نشوء هندسة أمنية متوازنة ويسلب القارة قدرة بناء مظلة استقرار جماعي. لذلك يسأل لافروف مجدداً عن الجدوى من مضاعفة الانتشار العسكري وتكثيف الشراكات الأمنية خارج الفضاء الأصلي للحلف إذا كانت النتيجة النهائية زيادة القلق وإضعاف قنوات الاتصال وإنتاج فراغات استراتيجية تستنبت الأزمات. ويؤكد أن البديل لا يكمن في التنافس الصفري بل في رعاية صيغ تعاون تحترم السيادات وتضبط استخدام القوة وتمنح الأولوية للدبلوماسية الوقائية، بما يشمل إعادة الاعتبار للحوارات متعددة الأطراف وإحياء قواعد تضمن توازن المصالح وتمنع الإقصاء. ومن هذا الباب، تعيد موسكو طرح استعدادها لتوثيق التزامات قانونية صريحة بعدم استهداف دول الحلف، شريطة أن يُنظر إلى أمنها بصفته جزءاً من معادلة أشمل لا تلغي أحداً ولا تختزل القارة في ترتيبات أحادية. بهذا المعنى، فإن الرسالة الختامية التي يقدمها الخطاب الروسي تؤكد أن تحويل أوراسيا إلى حقل تجارب لتوسعات مفتوحة لن يورث سوى مزيد من الجمود والتأزيم، وأن المخرج الواقعي يبدأ من اعتراف متبادل بحقوق الأطراف كافة في الأمن والتنمية، وبتحييد الفضاءات الحساسة مثل القطب الشمالي عن منطق عسكرة الدبلوماسية، وبترميم جسور الثقة عبر مواثيق واضحة قابلة للتحقق والمساءلة بما يضمن ألا تتحول القارة إلى ما يشبه الإقطاعية السياسية لكيان عسكري واحد.
موقع المراسل العسكري هو منصتك الأولى لمتابعة آخر الأخبار العسكرية العاجلة والتقارير الميدانية الحصرية، والتحليلات الاستراتيجية من قلب الأحداث. نحن نغطي التطورات العسكرية في الشرق الأوسط والعالم، ونوفر محتوى موثوقًا ومحدثًا باستمرار يشمل أخبار الجيش، الأسلحة، العمليات العسكرية، النزاعات، الدفاع، والأمن القومي. إذا كنت من المهتمين بالشؤون العسكرية أو باحثًا عن مصدر موثوق للأخبار العسكرية والتحليلات الدفاعية، فإن "المراسل العسكري" هو وجهتك الأفضل.
