في حادثة صادمة هزّت الأوساط الثقافية والفنية في فرنسا والعالم، أُغلق متحف اللوفر الشهير في باريس طوال يوم الأحد بعد عملية سرقة جريئة
![]() |
متحف اللوفر يتعرض للسرقة 2025 |
أُغلق متحف اللوفر الشهير في باريس طوال يوم الأحد بعد عملية سرقة جريئة استهدفت مجموعة من مجوهرات نابليون التاريخية المعروضة في قاعة الجاليري أبولّون (Galerie d’Apollon). ووفقًا للسلطات الفرنسية، تمكن عدد من اللصوص المحترفين من اقتحام المتحف في ساعات الصباح الأولى، ونفذوا عملية دقيقة استغرقت دقائق معدودة فقط قبل أن يفرّوا من المكان دون أن يتم القبض عليهم.
وزيرة الثقافة الفرنسية رشيدة داتي أكدت عبر منصة "إكس" (تويتر سابقًا) أن "عملية سرقة وقعت هذا الصباح عند افتتاح متحف اللوفر"، مضيفة أنه لم تُسجّل أي إصابات بين العاملين أو الزوار، وأن تحقيقًا موسعًا بدأ فورًا بمشاركة وحدات متخصصة من الشرطة الفرنسية. وأوضح بيان صادر عن إدارة المتحف أن اللوفر سيبقى مغلقًا طوال اليوم لأسباب "استثنائية"، دون تقديم المزيد من التفاصيل.
تفاصيل العملية وطريقة التنفيذ
بحسب صحيفة لو باريزيان الفرنسية، فإن اللصوص الذين كانوا ملثمين استغلوا وجود أعمال ترميم في أحد مباني المتحف للولوج إلى الداخل. استخدموا مدخلًا فرعيًا يؤدي إلى منطقة خاضعة لأعمال بناء، ومن هناك تمكنوا من الوصول إلى مصعد البضائع الذي أوصلهم مباشرة إلى قاعة "أبولّون" الشهيرة، وهي من أقدم قاعات المتحف وأكثرها فخامة، وتضم جزءًا من مجوهرات التاج الفرنسي التاريخية.
أفادت الصحيفة بأن اللصوص تمكّنوا من سرقة تسع قطع ثمينة من مجموعة مجوهرات نابليون وزوجته الإمبراطورة أوجيني، من بينها عقد وتاج ودبوس وقلادة فريدة. لكن الماسة الأسطورية المعروفة باسم “الريجنت” (Regent Diamond) والتي تزن نحو 140 قيراطًا وتُقدّر قيمتها بأكثر من 60 مليون دولار، بقيت في مكانها ولم تُمس، ما يشير إلى أن اللصوص ربما استهدفوا قطعًا محددة يسهل تهريبها وبيعها في السوق السوداء.
كما ذكرت لو باريزيان أن إحدى القطع المسروقة – وهي على ما يبدو تاج مكسور للإمبراطورة أوجيني زوجة نابليون الثالث – عُثر عليها بعد ساعات قليلة من السرقة خارج المتحف، مما يرجّح أن اللصوص أسقطوها أثناء فرارهم السريع.
سبع دقائق فقط
وزير الداخلية الفرنسي لوران نونيز صرّح في مؤتمر صحفي لاحق أن العملية لم تستغرق أكثر من سبع دقائق فقط، مما يعني أن اللصوص كانوا على معرفة دقيقة بمخطط المتحف ومساراته الأمنية. وأضاف الوزير: “يبدو أن الجناة قاموا بعمليات استطلاع مسبقة. لقد عرفوا تمامًا أين يدخلون وماذا يأخذون.” وأقرّ نونيز بصراحة أن السلطات الفرنسية "لا يمكنها منع كل شيء"، مشيرًا إلى أن المتاحف الكبرى في البلاد تواجه "هشاشة أمنية كبيرة" بسبب مساحاتها الواسعة وطبيعتها المفتوحة للجمهور.
خلفية تاريخية للمتحف والمجموعة المسروقة
يُعدّ متحف اللوفر أشهر متحف فني في العالم، ويستقبل سنويًا نحو تسعة ملايين زائر. يضم أكثر من 615 ألف قطعة فنية وأثرية، منها نحو 35 ألف معروضة بشكل دائم، تمتد من حضارات الشرق القديم إلى القرن التاسع عشر. قاعة "أبولّون" التي شهدت الحادثة تُعتبر جوهرة معمارية بحد ذاتها، إذ تحمل سقفًا مزخرفًا برسومات من عهد الملك لويس الرابع عشر وتعرض فيها مجوهرات الملوك الفرنسيين منذ قرون.
ويستحضر الفرنسيون اليوم ذكريات سرقات سابقة طالت المتحف:
-
في عام 1911، عندما سرق الإيطالي "فينتشنزو بيروجيا" لوحة الموناليزا الشهيرة لليوناردو دافنشي، بعدما خبّأها تحت معطفه وغادر بهدوء. ولم تُستعد اللوحة إلا بعد عامين في إيطاليا.
-
وفي عام 1983، سُرقت خوذة ودرع احتفاليان من عصر النهضة من قاعة أخرى في اللوفر، قبل أن يتم استعادتهما في بلجيكا عام 2021.
حادثة اليوم تأتي بعد أكثر من أربعة عقود من آخر عملية سرقة ناجحة داخل المتحف، مما يعيد طرح التساؤلات حول قدرة هذه المؤسسات على حماية كنوزها في عصر تتطور فيه تقنيات الجريمة المنظمة بسرعة مذهلة.
التحقيق والإجراءات الأمنية
فور وقوع السرقة، أغلقت إدارة المتحف الأبواب أمام الزوار وأخلت القاعات. توافدت وحدات من الشرطة العلمية وخبراء الأدلة الجنائية إلى الموقع، حيث قاموا بتحليل كاميرات المراقبة ومسار دخول وخروج اللصوص. وتشير المعطيات الأولية إلى أنهم استخدموا رافعة أو شاحنة صغيرة للوصول إلى مستوى مرتفع في الواجهة الجانبية للمبنى، ثم قاموا بقطع إحدى النوافذ بمعدات كهربائية للدخول.
وأوضحت وزارة الداخلية أن المجوهرات المسروقة تحمل "قيمة تراثية لا تُقدّر بثمن"، إذ لا يمكن تعويضها أو استبدالها لأنها تمثل جزءًا من التاريخ الإمبراطوري لفرنسا. ويُتوقع أن تُصدر السلطات قائمة رسمية بالمقتنيات المسروقة خلال الأيام القادمة بعد التأكد من الجرد الكامل.
وأشارت تقارير أخرى إلى أن الجناة فرّوا باستخدام دراجات نارية سريعة كانت تنتظرهم بالقرب من أحد المداخل الجانبية، مما يؤكد الطابع الاحترافي للعملية. وتواصل الشرطة تعاونها مع وحدة الجرائم المنظمة لتحديد ما إذا كانت العصابة نفسها وراء سرقات مشابهة في متاحف أوروبية أخرى خلال الأعوام الأخيرة.
تساؤلات حول أمن المتاحف
أعادت هذه السرقة فتح النقاش القديم حول التوازن بين الانفتاح الثقافي والأمن المادي في المؤسسات الفنية. فالمتاحف، وخاصة اللوفر، تُعتبر رموزًا للحضارة الإنسانية، وهي مفتوحة أمام ملايين الزوار يوميًا، الأمر الذي يجعل تأمينها بشكل كامل تحديًا هائلًا.
وتقول وزيرة الثقافة رشيدة داتي إن “السنوات الأخيرة شهدت تراجعًا في الاهتمام بتأمين المتاحف الكبرى”، مضيفة أن “الجريمة اليوم أصبحت منظمة واحترافية، وليست مجرد محاولات فردية.” وتدعو داتي إلى تحديث شامل لأنظمة المراقبة وزيادة عدد الحراس في المتاحف الوطنية، مع مراجعة بروتوكولات النقل والعرض للمقتنيات الثمينة.
من جانبهم، حذر خبراء التراث من أن المتاحف الأوروبية تواجه خطرًا متزايدًا من عصابات متخصصة في سرقة القطع الأثرية لبيعها في السوق السوداء العالمية، حيث يمكن تهريبها وتغيير هويتها خلال أيام قليلة فقط. كما أشار بعض النقاد إلى أن أعمال الترميم داخل المتاحف – مثل تلك الجارية حاليًا في اللوفر – تخلق ثغرات أمنية مؤقتة يستغلها المجرمون بدقة.
تداعيات محتملة
من المتوقع أن تشهد إدارة اللوفر في الأسابيع المقبلة مراجعة شاملة لإجراءات الدخول والخروج، وربما إعادة هيكلة نظام الأمن في قاعات العرض الحساسة. كما يُتوقع أن تؤثر الحادثة على سياسات التأمين الدولية الخاصة بالقطع الأثرية، إذ ستطالب شركات التأمين بمعايير أكثر صرامة قبل تغطية أي مقتنيات عالية القيمة.
أما بالنسبة للجمهور، فقد تم إلغاء جميع الزيارات والحجوزات في يوم السرقة، مع وعود بتعويض الزوار أو إعادة جدولة المواعيد. إلا أن الحادثة تركت أثرًا نفسيًا سلبيًا لدى عشاق الفن، وأثارت قلقًا بشأن سلامة الكنوز الثقافية التي طالما كانت مصدر فخر لفرنسا والعالم.
ويرى محللون أن هذه السرقة قد تدفع السلطات الأوروبية إلى توحيد الجهود الأمنية بين المتاحف الكبرى، وإنشاء قاعدة بيانات مشتركة للمقتنيات عالية الخطورة، في محاولة لمكافحة السوق السوداء للفنون والآثار.
بين الرمزية والخسارة
ما سُرق من اللوفر ليس مجرد مجوهرات مرصعة بالألماس والذهب، بل قطع تحمل رمزية وطنية وتاريخية عميقة. فمجوهرات نابليون والإمبراطورة أوجيني تُجسّد حقبة من المجد الفرنسي، تجمع بين الفن والسلطة والسياسة. وفقدانها – حتى ولو مؤقتًا – يعدّ خسارة ثقافية تعني كل الفرنسيين، بل وكل المهتمين بالتراث الإنساني.
ومع أن السلطات تؤكد أن التحقيق يسير بسرعة، فإن مصير القطع المسروقة يبقى مجهولًا. فغالبًا ما يتم تفكيك المجوهرات لبيعها بشكل منفصل، ما يجعل استعادتها في حال ضياعها أمرًا بالغ الصعوبة.
![]() |
تم إغلاق متحف الفن الفرنسي الشهير |
في المحصلة، تمثل هذه السرقة أخطر حادثة أمنية يشهدها متحف اللوفر منذ عقود. ورغم عدم وقوع إصابات بشرية، فإن الصدمة المعنوية كبيرة، والضرر الرمزي لا يُقاس بالمال. فالمتحف الذي لطالما كان رمزًا للجمال الإنساني أصبح الآن عنوانًا لنقاش عالمي حول هشاشة الأمن الثقافي.
ستُعيد إدارة اللوفر فتح أبوابها قريبًا، لكن الأسئلة الكبرى ستبقى مطروحة: كيف يمكن حماية التراث دون حرمان الناس من الوصول إليه؟ وهل تستطيع فرنسا – بل العالم أجمع – ضمان أن تبقى كنوز الإنسانية آمنة في زمن تتفوق فيه الجريمة المنظمة على الحماية التقليدية؟
قد تُستعاد القطع المسروقة، وقد لا تُستعاد. لكن المؤكد أن ما حدث سيغيّر إلى الأبد الطريقة التي تنظر بها المتاحف إلى أمنها، ويذكّرنا بأن التراث الإنساني، مهما بدا محصّنًا، يظل هشًّا في وجه الطمع البشري.