تعليق قمة روسيا الولايات المتحدة في بودابست: ما وراء القرار

صادر أميركية تؤكد وضع التحضيرات «على الرف» وغياب خطط قريبة للقاء ترامب وبوتين، مع تباينات حول أوكرانيا واتصال «بنّاء» بين لافروف وروبيو.

عليق قمة روسيا الولايات المتحدة في بودابست: ما وراء القرار
عليق قمة روسيا الولايات المتحدة في بودابست: ما وراء القرار
 في تطوّرٍ دبلوماسي لافت خطف الأضواء على منصّات الأخبار ووسائل التواصل، أكّدَت مصادر في البيت الأبيض لوسائل إعلام أميركية أنّ التحضيرات للقمة المقترحة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، والتي كان من المتوقّع عقدها في بودابست، قد وُضِعَت «قيد التجميد» في الوقت الراهن. فبحسب هذه التسريبات، لا توجد «خطط للّقاء في المستقبل القريب»، رغم الزخم الذي رافق الإعلان الأولي عن القمّة وإشارات الاستعداد التي بدت من بعض العواصم الأوروبية. وقد نقلت رويترز ووسائل أخرى عن مسؤول رفيع في الإدارة الأميركية أنّ الاتصالات التحضيرية لم تبلغ بعدُ مستوى يُبرّر المضيّ قدمًا إلى لقاءٍ وجاهي بين الزعيمين، ما يعني عمليًّا أنّ الملفّ أُعيد إلى الأدراج بانتظار نُضجٍ أكبر في المواقف. 

أحد أبرز مؤشّرات هذا التجميد تمثّل في تسريب للصحافي غاريت هايك، مراسل البيت الأبيض، الذي كتب على منصّة X أنّ التخطيط لقمة بودابست بات «معلّقًا» الآن، نقلًا عن مسؤول كبير لم يُذكَر اسمه. وتقاطعت هذه المعلومة مع تقارير أخرى تحدّثت عن أنّ الاتّصال الهاتفي بين وزير الخارجيّة الأميركي ماركو روبيو ونظيره الروسي سيرغي لافروف كان «بنّاءً»، لكنّه لم يفضِ إلى درجة من التقدّم تجعل القمة وجهاً لوجه ضرورية «في هذه اللحظة». هذا التباين بين إيجابية قناة الاتصال وتحفّظ قرار القمّة يشي بأنّ فجوةً تفاوضية لا تزال قائمة حول الملفات الجوهرية، وفي مقدّمتها الحرب في أوكرانيا وشروط أي تهدئة أو وقف إطلاق نار دائم.  

من الجانب الروسي، سارع الكرملين إلى نفي الحديث عن «تأجيلٍ» بالمعنى الرسمي، موضحًا أنّ «لا مواعيد مؤكّدة أصلًا» للقمة كي يُقال إنّها أُرجئت. المتحدّث دميتري بيسكوف شدّد على أنّ كلّ ما في الأمر هو أنّ التحضيرات «تستلزم عملاً جادًّا» وأنّ أي جدول زمني مرهون بتقدّمٍ ملموس في القضايا العالقة. هذه اللهجة الهادئة لا تنفي أنّ موسكو كانت تُراقب اختبار النوايا الأميركي عن كثب، وخصوصًا بعد الأنباء عن «لقاء تمهيدي» بين روبيو ولافروف قيل إنّه «وُضِع على الطاولة جانبًا» خلال الأسبوع الجاري. وهنا تتّضح معالم «تجميدٍ مُتبادل» أكثر منه إلغاءً، في انتظار مقترحات قابلة للبناء عليها. 

أمّا على مستوى السياق السياسي، فقد جاءت أنباء التعليق بعد أيام من حديثٍ علني للرئيس ترامب عن احتمال لقاءٍ مع بوتين «خلال أسبوعين» في المجر، في تلميحٍ إلى رغبةٍ في تحريك المسار الدبلوماسي على وقع نقاشٍ محتدم حول كيفية إنهاء الحرب الأوكرانية. غير أنّ واشنطن لم تلمس، كما يبدو، توجّهًا روسيًّا لقبول صيغة وقف نار «على خطوط التماس الحالية»، وهي صيغةٌ ترى فيها كييف وقطاعات واسعة من الأوروبيين تكريسًا لواقعٍ ميداني تُعارضه المبادئ والسيادة الأوكرانية. وفي المقابل، تُصرّ موسكو على مطالب ترتبط بوضع الناتو وطموح أوكرانيا للانضمام إليه، إضافةً إلى «ترتيبات أمنية» تعتبرها ضرورية. هذا الاشتباك السياسي–الأمني حول المعادلة النهائية يفسّر كثيرًا من البرودة التي اعترت ملفّ القمة. 

اللافت أنّ المجر لعبت دورًا محوريًا في رسم الخلفية اللوجستية للقمة، مع تأكيدات رسمية من بودابست في وقتٍ سابق بأنّ البلاد «جاهزة» لاستقبال بوتين «باحترام»، وأنّ الأمور تسير «على قدمٍ وساق». كما سُجّل في الضفة الأخرى تحذيرٌ بولندي لافت بشأن عبور الأجواء، في إشارة إلى حساسية الحركة الدبلوماسية الروسية داخل المجال الأوروبي. لكنّ هذه المؤشّرات اللوجستية–السياسية لم تتغلّب على المعادلة الجوهرية: المحتوى التفاوضي نفسه. فإذا لم تُحسَم خطوطُ أي اتفاقٍ في العمق، تصبح القممُ الكبرى أقرب إلى صورةٍ دبلوماسية من كونها رافعةً لحلٍّ حقيقي. 

على صعيد قنوات الاتصال، تذكر البيانات الرسمية أنّ مكالمة روبيو–لافروف الأخيرة تناولت «الخطوات التالية» بعد اتصال ترامب–بوتين، وأنّ الطرفين استعرضا إمكانيات البناء على نقاط التفاهم النسبية. لكنّ لغة البيانات، وإن كانت إيجابية، لم تتضمّن ما يشير إلى اختراقٍ نوعي أو جدول أعمال محدّد يُدخل الملفّ غرفة التنفيذ؛ بل بدت أقرب إلى ضبط الإيقاع وإبقاء القنوات مفتوحة دون التزامٍ بمواعيد قريبة. وهذا بالضبط ما يدفع البيت الأبيض اليوم إلى القول بأنّ «الجانبين ليسا جاهزَين بالقدر الكافي» لخطوة اللقاء الأعلى. 

من زاوية الإعلام والروايات المتعارضة، ساهمت تقارير CNN عن «تجميد» اللقاء التمهيدي بين روبيو ولافروف في إشعال موجة تفاعلات، بعضها روسي انتقد «الاستناد إلى مصادر مجهولة»، وبعضها أوكراني وأوروبي قرأ الخطوة كدليل على «سطوة الخلافات الجوهرية». وبين هذا وذاك، بقيت وكالات الأنباء الأكثر صرامةً في توثيقها مثل رويترز تعرض المشهد بعبارةٍ حاسمة: «لا خطط للّقاء في المستقبل القريب». هكذا تَحوّل ملف القمّة، في بضع ساعات، من قصةٍ واعدة إلى عنوانٍ معلّق بانتظار إشعارٍ آخر، مع إدراكٍ واسع بأنّ أيّ تقدّم دبلوماسي سيظلّ مرهونًا بالميدان ومعادلات الأمن الأوروبي.

تأثيرات هذا التجميد تتعدّى بروتوكول القمم إلى حساباتٍ أوسع. فبالنسبة إلى الإدارة الأميركية، أيّ قمة من هذا النوع تستوجب صورةَ نجاحٍ أدنى أو خريطة طريق قابلة للقياس كي تُبرَّر سياسيًّا أمام الداخل الأميركي وأمام الحلفاء. أمّا بالنسبة إلى الكرملين، فإنّ لقاءً بلا عائدٍ ملموس قد يُقرأ ضعفًا في القدرة على فرض الشروط أو انتزاع تنازلات جوهرية. لذلك، يُفضّل الطرفان ولو بدرجات مختلفة إرجاء الصورة إذا لم تحسم الحيثيات. وفي خلفية هذا كلّه يطفو سؤالٌ مركزي: هل يمكن صياغة صفقةٍ أمنية تُرضي موسكو دون أن تُكرّس خسائر كييف، وتُرضي واشنطن دون أن تُحدث شرخًا داخل الناتو؟ حتى الآن، لا يبدو أنّ الإجابة ناضجة. 

ولا ينبغي إغفال أنّ ملفّ بودابست بما يحمله من رمزيّةٍ داخل الاتحاد الأوروبي يُثير حساسياتٍ إضافية. فقبول استضافة بوتين في عاصمةٍ أوروبية حتى لو بصورةٍ «تقنية» يعني مواجهة أسئلةٍ قانونية وسياسية تتعلّق بنُظم العقوبات ومعايير التعامل مع موسكو. وقد رأينا بالفعل مواقف أوروبية متباينة، بين من يدعو إلى «نافذة دبلوماسية واقعية» تُبقي الحوار مفتوحًا ولو في حدودٍ دنيا، وبين من يرى أنّ أيّ تطبيعٍ رمزي مجانيّ قد يبعث برسائل خاطئة إلى الكرملين. هذا الانقسام يُلقي بثقله على حسابات الجدوى لدى واشنطن وموسكو على حدّ سواء. 

في المحصّلة، تُجسّد قصّة القمة «المعلّقة» صراعًا بين الرغبة في إنجازٍ دبلوماسي سريع وبين الواقع الذي يفرض بطءَ التفاهمات حين تتعلّق الأثمان بخرائط وحدود وأمنٍ ممتدّ من البحر الأسود إلى بحر البلطيق. وما بين «مكالمةٍ بنّاءة» و«قمةٍ مؤجّلة»، يبقى الملفّ مفتوحًا على احتمالاتٍ ثلاثة: إمّا عودة سريعة إلى طاولة بودابست إذا تَبدَّل مزاج الميدان واشتدت الحاجة إلى هدنةٍ مؤقّتة؛ وإمّا تمديد حالة «التعليق» مع إبقاء قنوات الاتصال على حرارتها الدنيا؛ وإمّا تَلاشي فكرة القمة لصالح مسارٍ أطول يمرّ عبر مفاوضاتٍ متعددة الأطراف برعايةٍ أوروبية ودولية. وحتى يحدث أيٌّ من ذلك، سيظلّ عنوان اللحظة كما لخّصته مصادر البيت الأبيض: «لا لقاء في المدى المنظور». 

 ما نعرفه حتى الآن أنّ التخطيط لقمة ترامب–بوتين في بودابست وُضِع «على الرف»، وأنّ واشنطن ترى أنّ «الجانبين غير جاهزَين بما يكفي» لِمَشهد القمّة، فيما يقول الكرملين إنّه «لا مواعيد أصلًا كي تُؤجَّل». وبين هذين الحدّين، تُواصل اتصالات روبيو–لافروف ضبط الإيقاع، لكن دون اختراقٍ يبرّر صور المصافحة أمام الكاميرات. إلى أن يتغيّر ذلك، تبقى الكلمات المفتاحية في هذه القصة: «بودابست»، «قيد التجميد»، «لا خطط في المستقبل القريب»، «اتصالٌ بنّاء»، و**«فجوات تفاوضية»** حول أوكرانيا والهندسة الأمنية الأوروبية

إرسال تعليق

أحدث أقدم