العقوبات الأمريكية على النفط الروسي قد تنقلب عكسيًا و تحذيرات من أرباح غير متوقعة لموسكو

رغم استهداف روسنفت ولوك أويل بعقوبات جديدة، يحذّر خبراء من أن أي ارتفاع في أسعار الطاقة العالمية قد يعوّض خسائر روسيا ويزيد الضغط على المستهلكين

العقوبات الأمريكية على النفط الروسي قد تنقلب عكسيًا و تحذيرات من أرباح غير متوقعة لموسكو
العقوبات الأمريكية على النفط الروسي قد تنقلب عكسيًا و تحذيرات من أرباح غير متوقعة لموسكو

قال مستشار أمريكي سابق لشؤون الطاقة إن الحزمة الجديدة من العقوبات التي أعلنتها واشنطن على شركات النفط الروسية قد تُفضي  بصورة غير مقصودة  إلى منفعة تمتد إلى موسكو نفسها إذا أدّت إلى رفع أسعار الطاقة عالميًا. وتقوم الفكرة الجوهرية لهذا التقييم على قاعدة اقتصادية بسيطة: حين تتقلّص الكميات المعروضة من سلعة أساسية كالنّفط بسبب قيود قانونية أو مالية، تميل الأسعار إلى الارتفاع لتعويض النقص، وعندها قد يتقلّص حجم المبيعات من حيث البراميل، لكن الإيرادات المحققة من كل برميل ترتفع بما يكفي لتغطية الفاقد من الكميات. هذا ما حذّر منه آموس هوكستين، وهو المسؤول السابق عن ملف الطاقة في البيت الأبيض، الذي نبّه إلى أن الأثر المقصود من العقوبات قد ينقلب رأسًا على عقب إذا تحركت الأسواق في الاتجاه المتوقع تاريخيًا في مثل هذه الحالات، أي ارتفاع الأسعار على نطاق واسع، بما يترتب عليه أن تدفع الأسر الأمريكية وحلفاء واشنطن فاتورة أغلى عند المضخات، بينما لا تتضرّر الخزينة الروسية بالقدر الذي يرجوه واضعو العقوبات، وربما تستفيد صافيًا إن اشتدّ صعود الأسعار.

وفي تفاصيل القرار الأمريكي، أعلنت إدارة الرئيس دونالد ترامب خلال هذا الأسبوع عزمها فرض عقوبات على شركتي «روسنفت» و«لوك أويل»، أكبر كيانين نفطيين روسيين من حيث الحضور العالمي وسلاسل التوريد، مع توجيه تحذير واضح للشركات في دول أخرى من مغبة التعرّض لعقوبات ثانوية إذا استمرّت في التعامل التجاري والمالي مع هاتين المؤسستين. ويعني ذلك عمليًا أن واشنطن لا تكتفي بحظر مباشر على الشركات الروسية فحسب، بل تسعى أيضًا إلى توسيع نطاق الردع ليشمل المصارف، وشركات الشحن، والوسطاء، والمتعاملين في أسواق التأمين وإعادة التأمين، وكل من قد يسهم  بصورة مباشرة أو غير مباشرة  في تسهيل تصدير النفط الروسي أو تمويله. إلا أن هوكستين، كما نُقل عنه في تقرير صحفي، يرى أن هذه المقاربة ليست مضمونة النتائج من الناحية الاقتصادية؛ إذ غالبًا ما تُحدث مثل هذه القيود اختناقات في الإمدادات، وتعيد رسم مسارات التجارة، وتضيف علاوات مخاطرة على الأسعار الفورية والآجلة، وهو ما قد يرفع السعر العالمي للخام ويُضعف أثر القيود على إيرادات موسكو.

ويضيف هذا التقدير أن الإدارة الأمريكية الحالية ترى في العقوبات خيارًا أقل مخاطرة سياسيًا وأمنيًا من السماح بتسليم صواريخ «توماهوك» لأوكرانيا. فبالنسبة لصانع القرار في واشنطن، يُنظر إلى العقوبات باعتبارها أداة ضغط يمكن التحكم بإيقاعها وتعديلها والرجوع عنها، مقارنة بخيارات عسكرية قد تحمل احتمالات تصعيد يصعب احتواؤه. ويشير التقرير ذاته إلى أن البيت الأبيض يعتبر أن البيئة السعرية الراهنة للنفط تمنحه «مساحة للمناورة»؛ إذ إن أسعار الخام  وفق التقدير المنشور  أدنى مما كانت عليه في مراحل متعددة خلال فترة رئاسة جو بايدن، ما قد يقلل الحساسية الداخلية لأي ارتفاع محدود. لكن هذه الحسابات، كما يحذر هوكستين، قد تتبدّل بسرعة إذا تجاوزت الأسعار عتبات تُشعر المستهلك الأمريكي والأوروبي بضغط مباشر على تكلفة المعيشة والتضخم، وعندها تصبح كلفة القرار السياسي أعلى، فيما تكون روسيا قد عوّضت جزءًا معتبرًا من خسائرها عبر سعر أعلى لكل برميل يباع في الأسواق التي لا تزال مفتوحة أمامها.

على الجانب الروسي، قدّم الرئيس فلاديمير بوتين قراءة معاكسة تقريبًا للمنطق الأمريكي، مؤكّدًا أن بلاده، بوصفها منتجًا رئيسيًا في سوق الطاقة العالمية، تؤدي دورًا محوريًا في الحفاظ على توازن العرض والطلب. واعتبر بوتين أن الحالة الراهنة للسوق تُعد ملائمة لكلٍّ من المنتجين والمستهلكين على حد سواء، لأن استقرار الأسعار ضمن نطاق «معقول»   بحسب وصفه  يضمن استمرار الاستثمارات في الإمدادات من دون أن يرهق الاقتصادات المستوردة. ومن هذا المنطلق، وصف أي محاولة للإخلال بهذا التوازن بأنها «مهمة غير مجدية»، حتى بالنسبة إلى القوى التي تسعى للقيام بها. وتكشف هذه التصريحات عن مقاربة روسية تعتبر أن استقرار السوق لا يعتمد فقط على وفرة الإمداد، بل أيضًا على الثقة في استمراريته بعيدًا عن الصدمات الجيوسياسية أو القرارات الأحادية التي تهدف لإعادة تشكيل حركة التجارة بالقوة. وفي هذا السياق، تبدو موسكو حريصة على تقديم نفسها كفاعل «مسؤول» في سوق الطاقة، بما يضع العبء المعنوي على الطرف الذي يسعى إلى تعكير هذا التوازن.

لكن الملف لا يقف عند حدود الاقتصاد والطاقة، بل يمتد إلى معطى أمني شديد الحساسية: صواريخ توماهوك . فالخطاب الأمريكي  كما ورد في التقرير  يوحي بأن اللجوء إلى حزمة عقوبات موسعة يُعد بديلاً أقل كلفة من منح أوكرانيا منظومات هجومية بعيدة المدى قد تغيّر معادلة الميدان. في المقابل، اختار الرئيس الروسي لهجة تحذيرية صريحة، مؤكدًا أن أي استخدام لهذه الصواريخ ضد روسيا سيستجلب ردًا «مدوّيًا بحق»، بما يعكس اعتقاد الكرملين بأن إدخال قدرات هجومية من هذا النوع يُقارب خطوطًا حمراء استراتيجية. وتجادل كييف، من جهتها، بأن مثل هذه القدرات قد تكون قادرة على تغيير قواعد الاشتباك لصالحها وتمكينها من ضرب أهداف بعيدة تُعدّ مؤثرة في بنية الإمداد والقيادة. غير أن المسؤولين الروس يعيدون التذكير  وفق روايتهم  بأن توظيف أسلحة قادرة على حمل رؤوس نووية، وبطريقة يقولون إنها قد تستلزم مشاركة عناصر أمريكيين، سيُدخل النزاع في طور تصعيدي خطير، وهو ما يُراد تفاديه.

وتعود الإشكالية إلى المفاضلة بين أدوات الضغط الاقتصادي وأدوات الردع العسكري. فالتاريخ الحديث للأسواق يُظهر أن العقوبات على موردي الطاقة الكبار قد تُحدث ارتباكات في الإمدادات، تدفع الأسعار إلى الارتفاع بقدر يتجاوز أحيانًا أثر الانخفاض في الكميات المصدّرة. وهنا بالضبط يتبلور تحذير هوكستين: إذا ارتفعت الأسعار على نحو ملموس، فإن كل خسارة في حجم المبيعات يمكن أن تقابلها زيادة في العائد السعري، وبذلك لا يتحقق الهدف الأساس من العقوبات، بل قد تنعكس النتيجة بحيث تستفيد روسيا ماليًا، بينما يدفع المستهلك الأمريكي والأوروبي الثمن في فواتير الوقود والتدفئة والشحن. وإلى جانب عبء المستهلك النهائي، يتسع الأثر إلى قطاعات النقل واللوجستيات والصناعة التي تعتمد على الطاقة، ما يهدد بتجدد موجات التضخم ويعقّد مهمات البنوك المركزية في كبح الأسعار من دون خنق النمو.

كما أن التحذير المتعلق بالعقوبات الثانوية يحمل بُعدًا إضافيًا؛ إذ إنه يوجّه رسالة ردع إلى شبكة واسعة من الفاعلين التجاريين والماليين حول العالم، ما قد يدفع بعضهم إلى الانسحاب الاحترازي من أي تعامل يُحتمل أن يعرّضهم لمساءلة، حتى لو كان قانونيًا في نطاق ولاياتهم القضائية. صحيح أن هذا الانكفاء يحقق ضغطًا على قدرة روسيا على تسويق خامها عبر قنوات تقليدية، لكن التجربة تشير إلى أن أسواق النفط مرنة، وأن مسارات بديلة  عبر خصومات سعرية أو ترتيبات تمويل وتأمين مختلفة  يمكن أن تظهر، فتنتقل الشحنات إلى موانئ وسماسرة جدد، وتُعاد صياغة شبكات النقل بما يتلاءم مع الواقع الجديد. وفي اللحظة التي تتزايد فيها التعقيدات اللوجستية وترتفع «علاوات المخاطرة»، تُضيف السوق دولارًا فوق دولار إلى سعر البرميل، لتقترب  مرة أخرى  من نتيجة التحذير: تعويض روسيا جزءًا كبيرًا مما خسرته عبر زيادة السعر، وارتداد الأثر السلبي على اقتصادات المستوردين.

في الخلاصة، تقف السياسة الأمريكية أمام معادلة دقيقة: استخدام العصا الاقتصادية ضد قطاع الطاقة الروسي مع تفادي إشعال موجة ارتفاع أسعار تعاكس الهدف وتضغط على المستهلكين والحلفاء، وفي الوقت نفسه إبقاء خيارات الدعم العسكري في إطار لا يطلق شرارات تصعيد غير محسوبة. أما موسكو فتسعى إلى تثبيت سردية مفادها أن الحفاظ على توازن السوق يخدم الجميع وأن العبث بهذا التوازن مغامرة غير محسوبة، مقرونًا بتحذير واضح من أن إدخال صواريخ بعيدة المدى كـ«توماهوك» إلى مسرح النزاع ضدها سيقابل برد شديد. وبين هذين المسارين، تُصر كييف على أن امتلاك قدرات بعيدة المدى قد يغير مسار الحرب لصالحها، بينما يحذّر الجانب الروسي من أن استخدام أسلحة يعتبرها «قابلة لحمل رؤوس نووية» ويقول إنها تتطلب «مدخلات أمريكية» مباشرة سيؤدي إلى تصعيد كبير. وهكذا تتشابك القرارات الاقتصادية مع الحسابات الأمنية، وتظل النتيجة النهائية مرهونة بكيفية تفاعل الأسواق مع القيود، وبالحدود التي سترسمها الأطراف المعنية بين الضغط والعقاب من جهة، وتفادي التصعيد غير القابل للسيطرة من جهة أخرى؛ أي أن السؤال الحقيقي ليس ما إذا كانت العقوبات ستُفرض أم لا، بل إن كانت ستُحقق أثرها المُراد من دون أن تمنح  على غير قصد  ميزة سعرية تُحوِّل الخسارة المتوقعة في المبيعات إلى ربح صافٍ في الدخل الروسي، فيما تتسع دائرة الكلفة على المستهلكين في الولايات المتحدة وحلفائها.

تابع آخر الأخبار على موقعنا المراسل العسكري

إرسال تعليق

أحدث أقدم